فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ} كناية عن تمليكه، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلًا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسودده، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقًا، وهذا من اللعين لزعمه أن الرياسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين، والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة، وقرأ الأعمش {أَسَاوِرَ} ورويت عن أبي، وعن أبي عمرو جمع أسورة فهو جمع الجمع، وقرأ الجمهور {أساورة} جمع أسوار بمعنى السوار والهاء عوض عن ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق.
وقد قرأ {أساوير} عبد الله وأبى في الرواية المشهورة، وقرأ الضحاك ألقى مبنيًا للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب {ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} من قرنته به فاقترن، وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناءً على هذا، وفسر أيضًا بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والاقتران مجاز أو كناية عن الإعانة.
ولذا قال ابن عباس: يعينونه على من خالفه، وقيل: عن التصديق ولولا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة، وهو على الأول حسي وعلى الثاني معنوي، وقيل: متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين، وعن قتادة متتابعين.
{فاستخف قَوْمَهُ} فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها، ومعنى الخفة السرعة لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محمودًا وفي نسبته ذلك للقوم تجوز {فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرهم به {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي.
{فَلَمَّا ءاسَفُونَا} أي أسخطونا كما قال علي كرم تعالى وجهه.
وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم.
والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل.
وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه: إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبة تعالى، وعلى ذلك قال عز وجل: «من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة» وقال سبحانه: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وعليه قيل: المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه، والسلف لا يؤولون ويقولون: الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل.
وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معًا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبًا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنًا، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف من نازع من يقوى عليه أظهره غيظًا وغضبًا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنًا وجزعًا، وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب

انتهى، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف.
{انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} في اليم.
{فجعلناهم سَلَفًا} قال ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة أي متقدمين إلى النار.
وقال غير واحد: قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم، والكلام على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير، وقيل: جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلًا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضًا.
وقرأ أبو عبد الله. وأصحابه. وسعيد بن عياش. والأعمش. والأعرج. وطلحة. وحمزة والكسائي {سَلَفًا} بضمتين جمع سليف كفريق لفظًا ومعنى، سمع القاسم بن معن العرب تقول: مضى سليف من الناس يعنون فريقًا، منهم وقيل: جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. ومجاهد. والأعرج. أيضًا سلفًا بضم ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفًا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبح والجمع سلفان كصردان ويضم.
{وَمَثَلًا لّلاْخِرِينَ} أي عظة لهم، والمراد بهم الكفار بعدهم، والجار متعلق على التنازع بسلفًا ومثلًا، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال؛ ومعنى كونهم مثلًا للكفار أن يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر. اهـ.

.قال الشوكاني:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقال إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)}.
لما أعلم الله سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوّه، وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد، أتبعه بذكر قصة موسى، وفرعون، وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا}، وهي: التسع التي تقدّم بيانها {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} الملأ: الأشراف {فَقال إِنّى رَسُولُ رَبّ العالمين} أرسلني إليكم {فَلَمَّا جَاءهُم بئاياتنا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ} استهزاء وسخرية، وجواب لما هو إذا الفجائية، لأن التقدير: فاجئوا وقت ضحكهم {وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هي أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي: كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها، وأعظم قدرًا مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها، وقيل: المعنى: إن الأولى تقتضي علمًا، والثانية تقتضي علمًا، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح، ومعنى الأخوّة بين الآيات: أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوّة موسى كما يقال: هذه صاحبة هذه، أي: هما قرينتان في المعنى.
وجملة {إِلاَّ هي أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} في محل جرّ صفة لآية، وقيل: المعنى: أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظنّ الظانّ أنها أكبر من سائر الآيات، ومثل هذا قول القائل:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ** مثل النجوم التي يسري بها الساري

{وأخذناهم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، والعذاب هو المذكور في قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات} الآية [الأعراف: 130]، وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو: رجاء رجوعهم، ولماعاينوا ماجاءهم به من الآيات البينات، والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.
{وَقالواْ ياأَيُّهَ الساحر}، وكانوا يسمون العلماء سحرة، ويوقرون السحرة، ويعظمونهم، ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.
قال الزجاج: خاطبوه بما تقدّم له عندهم من التسمية بالساحر {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي: بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، وقيل: المراد بالعهد: النبوّة، وقيل: استجابة الدعوة على العموم {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا، فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان، ومؤمنون بما جئت به.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} في الكلام حذف، والتقدير: فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب، فلما كشف عنهم العذاب، فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء، والنكث: النقض.
{ونادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ} قيل: لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى، فجمعهم، ونادى بصوته فيما بينهم، أو أمر مناديًا ينادي بقوله: {ياقوم أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ} لا ينازعني فيه أحد، ولا يخالفني مخالف {وهذه الأنهار تَجْرِى مِن تَحْتِى} أي: من تحت قصري، والمراد: أنهار النيل، وقال قتادة: المعنى تجري بين يديّ.
وقال الحسن: تجري بأمري، أي: تجري تحت أمري.
وقال الضحاك: أراد بالأنهار: القوّاد، والرؤساء، والجبابرة، وأنهم يسيرون تحت لوائه.
وقيل: أراد بالأنهار: الأموال، والأوّل أولى.
والواو في: {وهذه} عاطفة على ملك مصر، و{تجري} في محلّ نصب على الحال، أو هي واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة له، وتجري خبره، والجملة في محل نصب {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} ذلك، وتستدلون به على قوّة ملكي، وعظيم قدري، وضعف موسى عن مقاومتي {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} أم: هي المنقطعة المقدّرة ببل التي للإضراب دون الهمزة التي للإنكار، أي: بل أنا خير.
قال أبو عبيدة: أم بمعنى بل، والمعنى: قال فرعون لقومه: بل أنا خير.
وقال الفراء: إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وقيل: هي زائدة، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة، والمعنى: أنا خير من هذا.
وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ، فقال: {أَنَا خَيْرٌ}، وروي عن الخليل، وسيبويه نحو قول الأخفش، ويؤيد هذا: أن عيسى الثقفي، ويعقوب الحضرمي وقفا على (أم) على تقدير أم تبصرون، فحذف لدلالة الأوّل عليه، وعلى هذا، فتكون أم متصلة لا منقطعة، والأوّل أولى، ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أم أنت في العين أملح

أي: بل أنت.
وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ: {أما أنا خير}؟ أي: ألست خيرًا من هذا الذي هو مهين، أي: ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عزّ له {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} الكلام لما في لسانه من العقدة، وقد تقدم بيانه في سورة طه {فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ} أي: فهلا حلى بأساورة الذهب إن كان عظيمًا، وكان الرجل فيهم إذا سوّدوه سوّروه بسوار من ذهب، وطوّقوه بطوق من ذهب.
قرأ الجمهور: {أساورة} جمع أسورة جمع سوار.
وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة، والأساور، والأساوير أسوار، وهي لغة في سوار.
وقرأ حفص: {أسورة} جمع سوار، وقرأ أبيّ: {أساور}، وابن مسعود: {أساوير}.
قال مجاهد: كانوا إذا سوّدوا رجلًا سوّروه بسوارين، وطوّقوه بطوق ذهب علامة لسيادته.
{أَوْ جَاء مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ} معطوف على ألقى، والمعنى: هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقًا يعينونه على أمره، ويشهدون له بالنبوّة، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لابد أن يكونوا على هيئة الجبابرة، ومحفوفين بالملائكة.
{فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي: حملهم على خفة الجهل، والسفه بقوله، وكيده، وغروره، فأطاعوه فيما أمرهم به، وقبلوا قوله، وكذبوا موسى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} أي: خارجين عن طاعة الله.
قال ابن الأعرابي: المعنى: فاستجهل قومه، فأطاعوه بخفة أحلامهم، وقلة عقولهم، يقال: استخفه الفرح، أي: أزعجه، واستخفه، أي: حمله، ومنه: {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60]، وقيل: استخفّ قومه، أي: وجدهم خفاف العقول، وقد استخف بقومه، وقهرهم حتى اتبعوه {فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} قال المفسرون: أغضبونا، والأسف: الغضب، وقيل: أشد الغضب، وقيل: السخط، وقيل: المعنى: أغضبوا رسلنا.
ثم بيّن العذاب الذي وقع به الانتقام، فقال: {فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} في البحر {فجعلناهم سَلَفًا} أي: قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب.
قرأ الجمهور: {سلفًا} بفتح السين، واللام جمع سالف كخدم وخادم، ورصد وراصد، وحرس وحارس، يقال: سلف يسلف: إذا تقدّم، ومضى.
قال الفراء، والزجاج: جعلناهم متقدّمين؛ ليتعظ بهم الآخرون، وقرأ حمزة، والكسائي: {سلفًا} بضم السين، واللام.
قال الفراء: هو: جمع سليف، نحو سرر، وسرير.
وقال أبو حاتم: هو: جمع سلف نحو خشب، وخشب.
وقرأ علي، وابن مسعود، وعلقمة، وأبو وائل، والنخعي، وحميد بن قيس بضم السين، وفتح اللام جمع سلفة، وهي: الفرقة المتقدّمة نحو غرف، وغرفة، كذا قال النضر بن شميل {وَمَثَلًا لّلآخِرِينَ} أي: عبرة، وموعظة لمن يأتي بعدهم، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} قال: كانت بموسى لثغة في لسانه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه {فَلَمَّا ءاسَفُونَا} قال: أسخطونا.
وأخرجا عنه أيضًا {آسفونا} قال: أغضبونا، وفي قوله: {سَلَفًا} قال: أهواء مختلفة.
وأخرج أحمد، والطبراني، والبيهقي في الشعب، وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له»، وقرأ: {فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله، فذكر عنده موت الفجأة، فقال: تخفيف على المؤمن، وحسرة على الكافر، {فلما آسفونا انتقمنا منهم}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقال إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)}.
قد ذكر الله في أول السورة قوله: {وكم أرسلنا من نبيء في الأولين وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشًا ومَضى مثل الأولين} [الزخرف: 6 8].
وساق بعد ذلك تذكرة بإبراهيم عليه السلام مع قومه، وما تفرع على ذلك من أحوال أهل الشرك فلما تقضّى أُتبع بتنظير حال الرّسول صلى الله عليه وسلم مع طغاة قومه واستهزائهم بحال موسى مع فرعون ومَلَئِهِ، فإنَّ للمُثل والنظائر شأنًا في إبراز الحقائق وتصوير الحالين تصويرًا يفضي إلى ترقب ما كان لإحدى الحالتين من عواقبَ أن تلحق أهلَ الحالة الأخرى، فإن فرعون وملئِه تلقّوا موسى بالإسراف في الكُفر وبالاستهزاء به وباستضعافه إذ لم يكن ذا بذخة ولا محلّى بحلية الثراء وكانت مناسبة قوله: {وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} [الزخرف: 45] الآية هيَّأتْ المقام لضرب المثَل بحال بعض الرّسل الذين جاءوا بشريعة عظمى قبل الإسلام.
والمقصود من هذه القصة هو قوله فيها {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلَفًا ومثَلًا للآخرين} [الزخرف: 55، 56]، فإن المراد بالآخرِين المكذبون صناديدُ قريش.
ومن المقصود منها بالخصوص هنا: قوله: {وملئه} أي عظماء قومه فإن ذلك شبيه بحال أبي جهل وأضرابه، وقوله: {فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون} لأن حالهم في ذلك مشابه لحال قريش الذي أشار إليه قوله: {وكم أرسلنا من نبيء في الأولين وما يأتيهم من نبيء إلا كانوا به يستهزئون} [الزخرف: 6، 7]، وقوله بعد ذلك {أم أنا خير من هذا الذي هو مَهِين} [الزخرف: 52] لأنهم أشبهوا بذلك حال أبي جهل ونحوه في قولهم: {لولا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ} [الزخرف: 31] إلاّ أن كلمة سادة قريش كانت أقرب إلى الأدب من كلمة فرعون لأن هؤلاء كان رسولهم من قومهم فلم يتركوا جانب الحياء بالمرة وفرعون كان رسوله غريبًا عنهم.